فصل: تفسير الآيات (16- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 20):

{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وقالوا} أي: كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة: {ربنا عَجِّل لنا قِطَّنَا} أي: حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به، {قبل يوم الحساب} ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفي القاموس: القِط بالكسر النصيب، والصَّك، وكتاب المحاسبة. اهـ. أو: عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، أو: حظنا من الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عَجِّل لنا نصيبنا منها. وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة.
{اصْبِرْ على ما يقولون} من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء عليهم السلام الذين كانت بدايتهم أيام المحن، ثم جاءتهم أيام المنن، وبدأ بنبيه داود عليه السلام، فقال: {واذكر عبدَنا داودَ}، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً، يرعى الغنم، ثم صار نبيّاً مَلِكاً، ذا الأيادي العظام. وقوله: {ذَا الأيدِ} أي: ذا القوة في الدين، والملكَ، والنبوة. يقال: فلان ذو يد وأيد وأياد، بمعنى القوة، وأياد كل شيء: ما يتقوّى به. {إِنه أوَّابٌ}: رجّاع إلى الله في كل شيء، أو: إلى مرضاة الله تعالى. وهو يوماً، وهو أشدُّ الصوم، ويقومُ نصفَ الليل، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود، فقد أعطى القوة في الجهتين.
{إِنا سخَّرنا الجبالَ معه} أي: ذللناها له، تسير معه حيث يريد. ولم يقل له؛ لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي، كتسخير الرياح وغيرها لابنه، بل بطريق التبعية، والاقتداء به في عبادة الله تعالى. وقيل: {معه} متعلق ب {يُسَبّحْن}، أي: سخرناها تُسبِّح معه، إما بلسان المقال، يخلق الله لها صوتاً، أو: بلسان الحال، أي: يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به. والجملة: حال، أي: مسبِّحات، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال، وتجدُّده شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، {بالعَشِيّ} في طرفي النهار، والعشيّ: وقت العصر إلى الليل {والإِشراقِ}، وهو حين تُشرق الشمس، أي: تضيء، وهو وقت الضحى، وأما شروقها الثلاثي؛ فطلوعها، تقول: شرقت الشمس ولمّا تَشرق، أي: طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه صلّى عند أم هانئ صلاة الضحى، وقال: هذه صلاة الإشراق.
{والطيرَ محشورةً} أي: وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية. عن ابن عباس رضي الله عنه: كان إذا سبّح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير، فسبَّحت، فذلك حشرها. {كلٌّ له أواب} أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود.
ووضع الأوّاب موضع المسبّح؛ لأن الأوّاب: الكثير الرجوع إلى الله تعالى، من عادته أن يكثر ذكر الله، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل: الضمير لله، أي: كل من داود والجبال والطير أوّاب، أي: مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح، وقيل: لداود، أي: يرجع لأمره.
{وشَدَدْنا مُلْكَه} أي: قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود. قيل: كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري: ويقال: وشددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية، أو: بدعاء المستضعفين، أو: بقوم مناصحين، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه، أو: بقبوله الحق من كل أحد، أو: برجوعه إلينا في عموم الأوقات. اهـ. وقال ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود، فقال المستعدي: إن هذا غصبني بقرتي، فجحد الآخر، ولم تكن له بينة، فقال داود: قُوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه: أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله، أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل: أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال: تقتلني بغير بينة؟ فقال: نعم، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله، فقال: لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب، الذي هو السرقة، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة، وأخذتُ البقرة، فقتله داود، فقال الناس: إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه؛ فقتله، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب. اهـ.
{وآتيناه الحكمة}؛ النبوة، وكمال العلم، وإتقان العمل، والإصابة في الأمور، أو: الزبور وعلم الشرائع. وكل كلام وافق الحق فهو حكمة. {وفَصْلَ الخطاب}؛ علم القضاء وقطع الخصام، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس، أو: الفصل بين الحق والباطل. والفصل: هو التمييز بين الشيئين، وقيل: الكلام البيِّن، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس، فصْل بمعنى مفصول، أو: الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة، فيكون بمعنى فاصل، والمراد: ما أعطاه الله من فصاحة الكلام، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، في قضاياه وحكوماته، وتدابير الملك، والمشورات. وعن عليّ رضي الله عنه: هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وعن الشعبي: هو: أما بعد فهو أول مَن تكلم بها، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد.
الإشارة: فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى، ففيهم أُسوة حسنة لمَن يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {إِنَّا سخَّرنا الجبالَ معه...} إلخ. قال القشيري: كل مَن تحقق بحالة ساعده كل شيء. اهـ. قلت: وفي الحِكَم: (أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوِّن، فإذا شهدت المكوِّن كانت الأكوان معك) وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (21- 25):

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وهل أتاك نبأ الخصم}؛ استفهام، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه؛ لأنه من الأنباء البديعة، والأخبار العجيبة. والخصم في الأصل: مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجمع، كالضيف والزوْر. وأريد هنا اثنان، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان. {إذ تسوَّروا المحراب} أي: تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره: تسنمه: إذا علا سنمه. والمحراب: الغرفة، أو: المسجد، سمي محراباً لتحارب الشيطان فيه والخواطر الردية. و{إذ}: متعلق بمحذوف، أي: نبأ تحاكم الخصمين، أو بالخصم؛ لِمَا فيه من معنى الخصومة، {إِذ دخلوا على داودَ}: بدل مما قبله، أو: ظرف لتَسوروا، {فَفَزِعَ منهم}: تروَّع منهم.
رُويَ أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، قيل: جبريل وميكائيل، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في عبادته، فمنعهما الحرس، فتسوّروا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه، جالسان، ففزع منهم؛ لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء، ولأنهم نزلوا من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه. قال الحسن: جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء؛ يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.
فلما فزع {قالوا لا تخفْ}، نحن {خصمانِ بَغَى بعْضُنا على بعض} أي: ظلم وتطاول عليه، {فاحكمْ بيننا بالحق ولا تشْطِطْ}؛ لا تَجُرْ، من: الشطط، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق، {واهدنا إِلى سواء الصراط}؛ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته، والمراد: عين الحق وصريحه.
رُوي: أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته، فيتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك. وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السلام وقعت على امرأة أورِيا، وكانت جميلة، فأحبّها، فسأله النزولَ له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوجها، وهي أم سليمان؛ فعُوتب في ذلك، وقيل له: إنك مع عظيم منزلتك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك، وقهر نفسك، واصبر على ما امتحِنْتَ به. وقيل: خطبها أوريا، وخطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. اهـ. ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم، وإنما كان خلاف الأَولى.
وقال شيخ شيوخنا في حاشيته: لا يصح هذا في حق الأنبياء، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء.
وقال عليّ كرّم الله وجهه: مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين، وهو حدّ الفرية على الأنبياء يعني الحدّ مرتين. ورُويَ: أن رجلاً حدّث بها عند عُمر بن عبد العزيز، وعند رجلٌ من أهل الحق، فكذَّب المحدِّث، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يُلتمَس خلافُها، ولا أن يُقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرتَ، وقد سترها الله على نبيه، فما ينبغي إظهارَها عليه، فقال عمر: لَسَماعي لهذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب، فتزوجها، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض، دون التصريح؛ لكونها أبلغ في التوبيخ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النفسي.
ثم ذكر التعريض بقوله: {إِن هذا أَخي} في الدين، أو: في الصداقة، أو: الشركة. والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه، {له تِسعٌ وتسعونَ نَعْجَةً}؛ النعجة: الأنثى من الضأن، وقد يُكنى بها عن المرأة، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح. {وَلِيَ نَعْجةٌ واحدة} لا أملك غيرها، {فَقال اكْفِلنيهَا} أي: ملِّكنيها، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، {وعَزَّني}؛ غلبني {في الخطاب}؛ في الخصومة، أي: كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة، أو: غلبني في الخِطبة، حيث خطبتُ وخطبَ، فأخذها، وهذا منهما تعريض وتمثيل، كأنهما قالا: نحن كخصمين هذه حالهما، فمثّلت قصة أورِيا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة، وخليطه له تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وحاجّه في أخذها، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه، ليحكم بما حكم به من قوله: {قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجَتِكَ إلى نِعَاجِه}، حتى يكون محجوباً بحكمه. وهو جوابُ عن قسم محذوف، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها، مع أنَّ له قطيعاً منها. ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه، أو: بناه على تقدير صدق المدعي، أي: إن كنت صدقت فقد ظلمك، والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم.
{وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ}؛ الشركاء الذين خلطوا أموالهم، {لَيبغي بعضُهم على بعضٍ}؛ غير مراع لحق الصحبة والشركة، {إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} منهم، فإنهم يتحامَوْن عن البغي والعدوان، {وقليلٌ ماهم} أي: وهم قليل.
وما: مزيدة للإبهام، والتعجُّب من قِلتهم. والجملة: اعتراض. {وظنَّ داودُ أَنما فتناه}، الظن مستعار للعلم الاستدلالي؛ لما بينهما من المشابهة الظاهرة، أي: علم بما جرى في مجلس الحكومة؛ وقيل: لمّا قضى بينهما نظر أحدُهما إلى الآخر، فضحك، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السلام أنه تعالى ابتلاه. والقصر مُنصَّب على الفتنة، أي: علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان.
واختلف في سبب امتحانه، قيل: لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقال: يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي، فأوحى إليه: إني ابتليتهم، فصبروا، فابتلي إبراهيم بنمروذ وبذبح ولده، وإسحاق بالذبح. ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، وأنت لم تُبتل بشيءٍ، فقال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، فابتلي بالمرأة. وقيل: إنه ادعى القوة، وقال: إنه لا يخاف من نفسه قط، فامتُحن، {فاستغفر ربَّه} إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب؛ {وخَرَّ راكعاً} أي: ساجداً، على تسمية السجود ركوعاً، أو: خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة، {وأنابَ} أي: رجع إلى الله بالتوبة، رُوي: أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي، حتى نبت البقل من دموعه، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع، واشتغل بذلك عن المُلك، حتى وثب ابن له، يقال له: {إيشا} على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. اهـ.
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك، خلافاً للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك؛ هل سجد عند قوله: {وأناب} أو عند قوله: {وحُسنَ مآبٍ}. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة ص، فلما بلغت: {وأناب} سَجَدَت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحطّ عني بها وزراف، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فقال له عليه الصلاة والسلام: «وسجدتً أنت يا أبا سعيد؟» قلت: لا. قال: «كنتَ أحق بالسجود من الشجرة»، ثم تلى نبي الله الآيات، حتى بلغ: {وأناب} فسجد، وقال كما قالت الشجرة.
{فغفرنا له ذلك} أي: ما استغفر منه. قال القشيري: ولمّا أوحى الله بالمغفرة، قال: يا رب كيف بحديث الخصم؟ أي: الرجل الذي ظلمته فقال: قد استوهبتك منه. اهـ. وفي رواية: إني أعطيه يوم القيامة ما لم ترَ عيناه، فأستوهِبك منه فيهبك لي، قال: يا رب الآن قد عرفتُ أنك غفرت لي. اهـ. قال تعالى: {وإِن له عندنا لزُلْفَى}؛ لقُربى وكرامة بعد المغفرة، {وحُسْنَ مَآبٍ}؛ مرجع في الجنة.
الإشارة: إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي، دون الجمال المعنوي الجمعي، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي، الذي هو جمال الحضرة القدسية، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما، وهي مقام تفرقة، لا مقام جمع، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً، عن شهود فعله فرقاً، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. اهـ.
قال القشيري: قال داود عليه السلام: يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية، فأعطينها؟ فقال: إنهم صبروا لمّا ابتليتهم، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه، طمعاً في مثل تلك الرتب، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته، وأغلق أبوابه، ولم يُمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب. ثم إنه كان في البيت كوة، يدخل منها النور، فدخل منها طير صغير، كأنه من ذهب، وكان لداود ولد صغير، فهمَّ أن يقبضه لابنه، فما زال يحاول ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة، فامتحن بها، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة. اهـ.
وقال عند قوله: {فغفرنا له ذلك}: التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة، والبكاء، والتضرُّع، والاستكانة، فوجد المغفرةَ والتجاوز. وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله، فالله يكفيه ويتوب عليه، وكذلك مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة. ويقال: إن زلة قدّرها عليك، توصلك إليه بندمك، أحرى بك من طاعة، إعجابك بها يُقصيك عن ربك. اهـ. وفي الحِكَم: (معصية أورثت ذُلاًّ وافتقاراً، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً) وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب؛ فهو أدب. اهـ.